25. الكنيسة المعمدانيَّة: الفصل بين الكنيسة والدَّولة

‘‘أعطوا إذًا ما لقَيصَرَ لقَيصَرَ وما للهِ لله’’.
(متَّى 22: 21)

القسُّ المعمدانيُّ جورج دبليو. ترويت، من تكساس كان قد تحدَّث من على دَرَج مبنى الكونغرس عام 1920م إلى 15 ألف شخصٍ في الهواء الطَّلق. في إحدى المرَّات أعلنَ قائلًا: ‘‘إنَّ آية “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” هي أحَدُ أهمِّ الأقوال الثوريَّة التي مثَّلَتْ حدثًا تاريخيًّا نطقَتْ به الشفاه الإلهيَّة. أعلنَ هذا التَّصريحُ طلاقَ الكنيسة والدَّولة إلى الأبد، وإشراقَ فجرٍ جديدٍ تستمرُّ أصداؤه في كلِّ الأرض حتَّى تكون للعقيدة السُّلطة المطلَقَة في كلِّ مكان، وتعبِّر عن كنيسةٍ حرَّةٍ في دولةٍ حرَّة’’.

أُسُس الكنيسة الحرَّة في دولةٍ حرَّة

يرى المعمدانيُّون أنَّ مفهوم الكنيسة الحرَّة في دولةٍ حرَّة لا يستند إلى نظريَّةٍ سياسيَّةٍ ولا إلى وثائقَ بشريَّة، بل إلى كلمة الله. ويؤدِّي الالتزامُ المعمدانيُّ تُجاهَ سُلطةِ الكتاب المقدَّس إلى الإيمان المعمدانيِّ بالحرِّيَّة الدينيَّة ونتائجها المنطقيَّة، والفصل بين مؤسَّسات الكنيسة والدولة.

ما المقصود بمصطلحَي ‘‘الكنيسة’’ و‘‘الدولة‘‘؟ يُشير مصطلح ‘‘الدولة’’ إلى الحكومات، ويُوضِّح الكتاب المقدَّس أنَّ الله عيَّن الحكومات لتطبيق القانون وتوفير النظام والترتيب (رومية 13: 1-5). يجب أن يعمل قادة الحكومات لمصلحة المواطن (1بطرس 2: 13-14)، ويجب على المعمدانيِّين والمسيحيِّين الآخرين أن يُكرموا المسؤولين الرسميِّين ويُصلُّوا من أجلهم (1تيموثاوس 2: 1-3؛ 1بطرس 2: 17)، وأن يدفعوا الضرائب (متَّى 22: 17-22؛ رومية 13: 6-7)، وأن يُطيعوا الحكومات إلَّا عندما تتعارضُ الطاعة بوُضوحٍ مع مشيئة الله (أعمال 4: 19-20، 5: 29). وعلى مرِّ التاريخ، أكَّدَ المعمدانيُّون انتماءَهم إلى دولهم وإخلاصهم لها.

يُشير مصطلح ‘‘الكنيسة’’ إلى المنظَّمات الدينيَّة. ويرى المعمدانيُّون أنَّ هذا يشمل الجماعات المحلِّيَّة والكِيانات المختلفة المؤسَّسة لأجل الأغراض الدينيَّة، كالجمعيَّات والطوائف والمدارس ومؤسَّسات الخدمة. ويُعلِّمُ المعمدانيُّون أنَّ طبيعة ‘‘الكنيسة’’ هي أن تنشرَ إنجيل يسوع المسيح (أعمال 1: 8)، وتُعلِّم العقيدة، وتُنمِّي المؤمنين (متَّى 28: 19-20؛ أفسس 4: 11-13)، وتخدمَ بِاسْم المسيح (متَّى 25: 31-46). وعلى الكنيسة أن تعتمدَ في تأدية إرساليَّتها على سَيف الروح لا على سَيف الحكومة.

مثاليًّا، تُعدُّ العلاقة ما بين الكنيسة والدولة مفيدةً للطَّرفَين. مثلًا، دورُ الدولة هو توفير النظام والأمان، وهذا مفيدٌ للكنيسة في أداء إرساليَّتها (أعمال 13-16). وتُسهِمُ الكنيسةُ في نظامٍ اجتماعيٍّ إيجابيٍّ بواسطة المساعدة في تنمية مواطنين مجتهدين وأمناء ملتزمين نحو القانون (أفسس 4: 24-32؛ 1بطرس 2: 11-17).

يؤكِّدُ المعمدانيُّون أنَّ هذه المنفعةَ المتبادَلة تعملُ على نحوٍ أفضل عندما تكون مؤسَّساتُ الكنيسة والدولة منفصلة، وعندما لا يسعى أيٌّ منهما إلى السيطرة على الآخر. فلا يصحُّ أن تُمليَ الدولة على الكنيسة عقيدةً أو أسلوبَ عبادةٍ أو تنظيمًا أو عضويَّةً أو أفرادًا للقيادة. وفي المقابل، لا يجوز للكنيسة أن تطلُب سُلطةً أو دعمًا مادِّيًّا منَ الدولة لتحقيق غاياتها الروحيَّة. وهذا هو النموذج الوارِد في العهد الجديد.

إنَّ طبيعةَ الإنجيل والكنيسة نفسها تتطلَّبُ مثل هذه العلاقة. يُعلن الكتاب المقدس أنَّ الله خلقَ البشر بقدرةٍ على معرفة مشيئته واتِّباعها (تكوين 1: 27)، ويجب أن يكونَ اتِّباع مشيئة الله نابعًا من حرِّيَّةِ اختيار، لا نتيجة إكراهٍ من الكنيسة أو الدولة. والخلاص الذي يقدِّمه المسيح هو نتيجة حرِّيَّة الاختيار للإيمان بيسوع المسيح ربًّا ومخلِّصًا (يوحنَّا 3: 16؛ أفسس 2: 8-10). ومن ثَمَّ، لا ينبغي للدَّولة أن تَحولَ دون إعلانِ الإنجيل بحرِّيَّة، أو أن تؤثِّرَ في حرِّيَّة الناس في قبول الإنجيل أو رفضه.

علاوةً على ذلك، يجب أن تتكوَّنَ الكنائسُ من أناسٍ اختاروا بحرِّيَّةٍ أن يعتمدوا بالماء ويجتمعوا معًا (أعمال 2: 41-42)، وأن يدعمَ الناسُ الكنائسَ بواسطة العطايا الطوعيَّة من عشورٍ وتقدِمات (2كورنثوس 8: 1-15). كما أنَّ يسوع وحدَه هو السيِّد، وليس الجهات الرسميَّة ولا المنظَّمات الكنسيَّة (أفسس 4: 11-16؛ فيلبِّي 2: 8-11).

تاريخ العلاقات بين الكنيسة والدولة

نادرًا ما يتحقَّقُ الوضعُ المثاليُّ الذي يذكرُه الكتاب المقدَّس للعلاقات بين الكنيسة والدولة. في السنوات الأولى للمسيحيَّة، عانَتِ الكنيسة جرَّاء اضطهادِ الحكومة الرومانيَّة. وفي القرن الرابع، أصدرَتِ الحكومةُ الرومانيَّةُ مرسومًا يُعلِن ليس فقط التسامحَ الدينيَّ مع المسيحيَّة، بل أيضًا يوفِّر لها مكانةً متميِّزة.

أدَّى هذا إلى اتِّحاد الكنيسة والدولة، أيِ اتِّحاد الحكومة القائمة مع الشكل السائد للمسيحيَّة. وتبايَنَتِ التدابير على مرِّ القرون، لكن بقيَ أمرٌ واحدٌ ثابتًا: أنَّ كلَّ أشكال التعبير الدينيِّ تعرَّضَتْ للاضطهاد باستثناء الآراء الدينيَّة ‘‘الرسميَّة’’. وكانت الحكومات تخوِّنُ المؤمنين بحرِّيَّة العقيدة، مثل المعمدانيِّين، في حين حسبتهُمُ الكنائسُ المدعومة من الدولة مهرطقين.

أدَّى استخدام سُلطة الدولة لفَرْض العقيدة إلى استنزاف الحيويَّة الروحيَّة لكنائس الدولة المعتمَدة، وضمِّ طائفةٍ من الناس لم ينالوا الخلاص إلى الكنائس. علاوةً على ذلك، أسفرَتْ جهودُ الحكومات لحماية دين الدولة عن حروبٍ وصراعاتٍ أهليَّةٍ أضعفَتِ الحكومات، وهكذا ظلَّ اتِّحاد الكنيسة والدولة ضارًّا لكلتَيهما.

المعمدانيُّون والعلاقات ما بين الكنيسة والدولة

عانى المعمدانيُّون بشدَّةٍ تحت وطأة اتِّحاد الكنيسة والدولة، وناضلوا بقوَّةٍ من أجل حرِّيَّة العقيدة للجميع وليس لهم فقط، وكان هدفهم هو الحرِّيَّة وليس مجرَّدَ التسامح.

يُعدُّ سجلُّ نضال المعمدانيِّين من أجل الحرِّيَّة الدينيَّة والفصل بين الكنيسة والدولة قصَّةَ شجاعةٍ ومثابَرة، وظلَّتْ مجموعة من الناس الشجعان متمسِّكين بقناعاتهم في مواجَهة المقاوَمة الشَّرِسة من السُّلطات الدينيَّة والحكوميَّة، وفعلوا هذا جرَّاء اعتقادهم أنَّهم على حقٍّ لتمسُّكهم بتعاليم الكتاب المقدَّس.

مثلًا، توماس هيلويس (1556م-1616م)، وهو قسٌّ معمدانيٌّ عاش في لندن مطلع القرن السابع عشر، كان قد دافع علانيةً عن حرِّيَّة العقيدة. وفي إنكلترا، كان الملك ليس فقط رئيسًا للحكومة، بل أيضًا رئيسًا لكنيسة إنكلترا، فأصرَّ هيلويس على أنَّه ليسَتْ للملك سُلطةٌ على الأبعاد الروحيَّة للحياة، وأرسل إليه نسخةً من كتابٍ كان هيلويس قد ألَّفه، وأرفق الكتاب برسالةٍ مكتوبةٍ بخطِّ اليد تقول: ‘‘الملك إنسان فانٍ وليس إلهًا’’.

فأمرَ الملك جيمس بزجِّ القسِّ هيلويس في السجن، حيث مات هناك بسبب عدم تخلِّيه عن قناعاته.

بعد بضع سنواتٍ في أميركا، أُرغِم روجر وليَمز (1603م-1683م) على مغادرة مستعمرة خليج ماساتشوستس بسبب آرائه المؤيِّدة للفصل بين الكنيسة والدولة، وأسَّس وليَمز أوَّلَ كنيسةٍ معمدانيَّةٍ في أميركا ومستعمرة رود آيلاند، وأتاحَتِ المستعمرة الحرِّيَّة الدينيَّة للجميع، وكَتَب داعيًا إلى ‘‘سياج أو جدار يفصل بين بستان الكنيسة وبرِّيَّة العالم’’.

لكنْ مرَّتْ سنواتٌ قبل أن يُصبح ‘‘جدار الفصل’’ واقعًا وطنيًّا. وعندما وُضع دستور الولايات المتَّحدة أمام الشعب للتصديق عليه، لم يكُن يحتوي على أيَّة مادَّة تتعلَّقُ بالحرِّيَّة الدينيَّة، فانضمَّ المعمدانيُّون إلى آخرين في محاولةٍ لإفشال التصديق على الدستور ما لم يُقدِّم ضمانًا للحرِّيَّة الدينيَّة. وهكذا أُجري أوَّل تعديلٍ دستويٍّ ينصُّ على أنَّه: ‘‘لا يصدر الكونغرس أيَّ قانون خاصٍّ بإقامة دينٍ من الأديان، أو منع حرِّيَّة ممارسته، أو الحدِّ من حرِّيَّة التعبير أو الصحافة، أو من حقِّ الناس في الاجتماع سلميًّا، ومطالبة الحكومة بإنصافهم’’.

تحدِّيات تواجِهُ الكنيسةَ الحرَّة في دولةٍ حرَّة

إنَّ الكفاح من أجل فَصْل الكنيسة والدولة لم ينتهِ بعدُ. ولم يتحقَّقْ بعدُ الوضعُ المثاليُّ الذي عبَّر عنه جورج دبليو. ترويت على درج مبنى الكونغرس قائلًا: ‘‘السلطةُ المطلقة في كلِّ مكانٍ في الكنيسة الحرَّة في دولة حرَّة’’. في بعض البلدان، يسود الاتِّحاد ما بين الدين والحكومة، وتقلُّ حرِّيَّة العقيدة أو تنعدم. وفي بلدانٍ أُخرى، يظلُّ التسامُح وحده، وليس الحرِّيَّة الكاملة، هو ما ينصُّ عليه قانون البلد، ويوجد إغراء مستمرٌّ لاستخدام أموال الضرائب وسُلطة الدولة في تنفيذ خدمات الكنائس.

إنَّ إدراك ما يعنيه مفهوم الفَصْل في عالمٍ دائم التغيُّر هو تحدٍّ دائم. ولا يقصدُ المعمدانيُّون بفَصْل الكنيسة عن الدولة فَصْلَ الله عن الحكومة؛ لأنَّهم يعلَمون المناطقَ الرماديَّة في العلاقة، والتفسيرات المختلفة لما يعنيه الفصل.

لكنْ تستمرُّ الكنيسة المعمدانيَّة في تأكيد أنَّه لا ينبغي للكنيسة أو الدولة أن تُمارسَ سُلطتها على الآخر، وتؤكِّد أنَّ الكنيسة يجب ألَّا تعتمد على التمويل من الدولة أو سُلطتها لتنفيذ إرساليَّتها، وتُشير إلى السجلِّ التاريخيِّ الذي يؤكِّد أنَّ وُجودَ كنيسةٍ حرَّةٍ في دولةٍ حرَّةٍ يُقدِّم بركة لكلتَيْهما.

الخلاصة

إنَّ اليقظةَ المستمرَّة هي ثمن الحرِّيَّة، لا سيَّما حرِّيَّة العقيدة. لذا على المعمدانيِّين مقاومةُ جهود دَمْج الكنيسة والدولة، والسعي نحو فصلٍ وُدِّيٍّ بين الاثنَتَين تنتجُ عنه حرِّيَّةٌ دينيَّة.

‘‘يجب أن تكون الكنيسة والدولة منفصلتَين…فوُجود كنيسةٍ حرَّةٍ في دولةٍ حرَّةٍ هو الوضعُ المسيحيُّ الأمثل…’’
اقتباسٌ من ‘‘الإيمان المعمدانيُّ والرسالة’’