15. المعمدانيُّون والتعاوُن الطوعيّ

‘‘مِنْ تِلقاءِ أنفُسِهِمْ، ملتَمِسينَ مِنَّا، بطِلبَةٍ كثيرَة، أنْ نَقبَلَ النِّعمَةَ وشَرِكَةَ الخِدمَةِ التي للقِدِّيسين’’.
(2كورنثوس 8: 3-4)

يؤمنُ المعمدانيُّون بأنَّ الكتابَ المقدَّس يُعلِّمنا أنَّ الكنائس يجب أن تكونَ مستقلَّةً عن أيَّة سيطرةٍ خارجيَّةٍ سواء من الأفراد أم الجماعات الأخرى، ويُكلِّف الكتابُ المقدَّس المؤمنين أيضًا بالمشاركة في الإرساليَّات، وتنفيذ وصيَّة المسيح بإيصال رسالة الإنجيل إلى العالم أجمع. في الواقع، لا يُمكن أن تحقِّقَ جماعةٌ واحدة بمفردها، مهما بلغَ حجمها وعدد أعضائها، وصيَّةَ الربِّ بما فيه الكفاية.

لذلك، واجَهَ المعمدانيُّون الأوائل معضلةً كبيرةً تتمثَّل في الكيفيَّة التي يمكنُ بها أن تتمِّمَ جماعاتٌ مستقلَّةٌ وصيَّةَ المسيح، وتوصل رسالة الإنجيل إلى العالم أجمع دون أن تكوِّن نوعًا من الارتباط ما بين الكنائس. لكنَّ ذلك قد يُضعِفُ استقلالها. وبعد عقودٍ من التشاوُر بروح الصَّلاة، توصَّلَ المعمدانيُّون إلى إجابةٍ عن هذا السُّؤال: ‘‘التعاوُن الطوعيّ’’ بين المعمدانيِّين والكنائس المعمدانيَّة. ووصف جيمس سوليفان، رجل الدَّولة المعمدانيّ، هذا الأمر بأنّه ‘‘حبلٌ مِن رمالٍ بقوَّةِ الفولاذ’’.

أُسسُ التعاوُن الطوعيّ

يرتكز التعاوُن الطوعيُّ بقوَّةٍ على القناعات المعمدانيَّة الأساسيَّة الأُخرى، ويمثِّلُ العمل الطوعيُّ والحرِّيَّة موضوعًا يتخلَّلُ السيمفونيَّة المعمدانيَّة الخاصَّة بالمعتقدات والأنظمة الأساسيَّة للإدارة. فمثلًا يُؤمِن المعمدانيُّون بما يلي:

يُعلِّمنا الكتاب المقدَّس أنَّ اختبار الخلاص في المسيح هو أمرٌ طوعيٌّ واختياريّ، فلا يُمكن إجبارُ أحدٍ على الإيمان، ولا يأتي الخلاص سوى نتيجةِ استجابةِ إيمانٍ مع عطيَّة النعمة الإلهيَّة بالإيمان بالربِّ يسوع المسيح (أفسس 2: 8-10)، ولا أحد يستطيع أن يُؤمن بدلَ شخصٍ آخر، أو يفرض الإيمان على شخصٍ آخر.

ترمزُ المعموديَّة إلى أنَّ شخصًا ما قد التزم التزامًا طوعيًّا مبادئَ الحياة مع المسيح بصفته مخلِّصًا وربًّا، ويكشف العهد الجديد أنَّه لا يُمكن إجبارُ أحدٍ على المعموديَّة؛ إذ يجب أن تكونَ دائمًا طوعيَّةً بوصفها رمزًا إلى اتِّباع الشخص للمسيح بكلِّ حرِّيَّةٍ بوصف يسوع المسيح ربًّا ومخلِّصًا.

يجب أن يتَّخذ الشخص قرارًا طوعيًّا أيضًا بأن يكون جُزءًا من كنيسة؛ فوَفقًا للعهد الجديد، لا يستطيعُ سوى الأشخاص المؤمنين بالمسيح إيمانًا طوعيًّا أن يكونوا أعضاء في كنيسة، ويجب عدم إجبار أحدٍ على أن يكون عضوًا في كنيسة. كما يجب أن يكون الدعمُ الماليُّ طوعيًّا، وأن تكونَ العشور والتقدِمات من الأعضاء هي ما يدعمُ كنيسةً ما ويموِّلها.

تنطبق أيضًا الطبيعة الطوعيَّة للكنائس على علاقة الكنائس بعضها ببعض، وبكياناتٍ أُخرى من الطائفة المعمدانيَّة؛ فكلُّ كنيسةٍ مستقلَّةٌ ذاتيًّا، ومن ثَمَّ فهي حُرَّة في خضوعِها لربوبيَّة المسيح لتحديد أمورٍ مثل القادة وشكل العبادة فيها وكيفيَّة ارتباطها بكياناتٍ معمدانيَّةٍ أُخرى، ولا يملك أيُّ فردٍ أو منظَّمةٍ الحقَّ في انتهاك هذه الحرِّيَّة.

أُسس التعاوُن الطوعيّ

يُوضِحُ الكتاب المقدَّس مفهومَ التعاوُن الطوعيِّ ما بين الكنائس، ويُسجِّلُ العهد الجديد أمثلةً على مثل هذا التعاوُن بين المؤمنين في الكنائس الأولى؛ إذ كان التعاوُن يهدف إلى الخدمة الفعَّالة التي تُلبِّي الحاجةَ البشريَّةَ إلى الشركة والإرساليَّات الفعَّالة والكرازة، مثلًا كَتَبَ الرسولُ بولسُ إلى الكنيسة في كورنثوس عن احتياجات المؤمنين في أورشليم، وناشَدَ أهلَ كورِنثوس أن ينضمُّوا إلى كنائسَ أُخرى، ويجمعوا دعمًا طوعًا للمساعدة في تسديد هذه الاحتياجات. وقد أوضحَ أنَّ هذه التقدمة يجب أن تكونَ طوعيَّةً تمامًا، ولم يكُن الرسول بولس يأمرُهم أو يجبرهم على هذا الأمر (2كورنثوس 8-9).

ويُسجِّل العهد الجديد أيضًا أنَّ المسائل التي هدَّدتْ بتقسيم حركةِ المسيحيَّة الأولى جرى التعامل معها ومعالجتها بالتعاوُن الطوعيِّ لمناقشة هذه المسائل، فلا كنيسة أو مجموعة من المؤمنين يُمكنها أن تُمليَ على الآخرين ما يؤمنون به، لكن يُمكنها أن تضعَ توصِيات بواسطة مناقشاتٍ تدورُ بروح الصلاة، شرْطَ ألَّا تكونَ مطالبَ ديكتاتوريَّة، بل اقتراحات رقيقة (أعمال 15). مثلٌ آخر على التعاوُن الطوعيِّ في العهد الجديد، هو الموافقة على تخصيص بعض الكارزين والمرسَلين لمجموعاتٍ مختلفةٍ من الناس إذ يركِّز بعض الأشخاص على اليهود، وبعضهم الآخر على الأمم (غلاطِيَّة 2: 1-10).

ويُشير العهد الجديد أيضًا إلى أنَّ الكنائس الأولى في المنطقة الجغرافيَّة ذاتها كانت تتمتَّع بنوعٍ من العلاقة ما بين بعضها بعضًا، فكتب الرسول بولس: ‘‘إلَى كنائسِ غَلاطِيَّة’’(غلاطِيَّة 1: 2). وكانت الرُّؤيا التي أعطاها الله ليوحنَّا موجَّهة إلى الكنائس السبع في آسيا الصُّغرى، وكان منَ الواضح أنَّ كلَّ كنيسةٍ مستقلَّةٌ ذاتيًّا، لكنَّها مرتبطةٌ أيضًا بالآخرين (رؤيا 1-3).

طبيعةُ التعاوُن الطوعيّ

الطبيعة الطوعيَّة للحياة المعمدانيَّة المتأصِّلة في تعاليم الكتاب المقدَّس لها نقاطٌ قوَّة واضحة، غير أنَّ استقلالَ كنيسةٍ ما يفتقرُ إلى التأثير القويِّ الذي يُمكن أن تُحدِثُه مجموعةٌ من الكنائس لقضيَّة المسيح. لكن كيف يُمكن تحقيق التآزر دون عمل طوعيٍّ يتَّسم بالتضحية والحرِّيَّة؟

تمثَّلت إجابة المعمدانيِّين عن هذا السؤال في التعاون الطوعيِّ للكنائس بشبكاتٍ غير رسميَّةٍ من الكنائس والمنظَّمات مثل الجمعيَّات والطوائف والمجامع، لكنَّ هذه الإجابة تطوَّرت ببطءٍ بدرجةٍ كبيرةٍ بسبب التشكُّك المعمدانيِّ في المنظَّمات الدينيَّة الأُخرى خارج نطاق الجماعات المحلِّيَّة.

كانت الخطوة الأولى التي اتَّخذَها المعمدانيُّون نحو التعاوُن الطوعيِّ هي تكوين جمعيَّات الكنائس. تأسَّست جمعية فيلادلفيا في أميركا عام 1707م، حيث اجتمع عددٌ من الأشخاص مِن الكنائس المعمدانيَّة، ونظَّموا شركةً غير رسميَّةٍ على غرار منظَّماتٍ تشكَّلتْ سابقًا في إنكلترا، وأوضح منظِّمو الجمعيَّة أنَّها لا تمتلك أيَّة سلطةٍ على الكنائس. كانت الجمعيَّة قائمةً في الأساس بهدف الشركة ومناقشة المسائل التي تُواجه الكنائس، واليوم المئات من هذه الجمعيَّات قائمة. ورغم اختلاف أدوارها ووظائفها، فإنَّ كلًّا منها تتبع نموذجَ التعاوُن الطوعيِّ دون أيَّة سُلطةٍ على أيَّة كنيسة.

تضمَّنتِ الخطوةُ الثانية منَ التعاون الطوعيِّ تنظيم الجمعيَّات، وكان لهذه الجمعيَّات تركيزٌ وحيدٌ مثل الإرساليَّات الأجنبيَّة أو الإرساليَّات الوطنيَّة أو المطبوعات، وأصبح الأفراد أو المجموعات أعضاء بالإسهام في تقديم التبرُّعات الماليَّة للجمعيَّات، وكانت العضويَّة اختياريَّة. كان المعمدانيُّون يقرِّرون دَعْمَ جمعيَّةٍ ما أو عدم دعمها. ولا تزال الجمعيَّات موجودةً في الحياة المعمدانيَّة، لكنْ برزَ شكلٌ آخر من التعاوُن هو الطائفة.

تأسَّس الشكلُ التنظيميُّ للطائفة بين المعمدانيِّين في الولايات المتَّحدة في منتصف القرن التاسع عشر. وتختلف الطائفة عن الجمعيَّة في أنَّها تطلبُ الدعم وتجمعه لأجل الجهود المختلفة التي تبذلها، مثل الإرساليَّات والتعليم والعمل الخيريِّ والمطبوعات، ولا تهتمُّ بمسألةٍ واحدة، وقد تُشكِّل عددًا من الطَّوائف على مستوى الولايات. وتطوِّر برنامج التعاون بوصفه طريقةً تقليديَّةً للمساعدة في دَعْم الخدمات المعمدانيَّة وتمويلها، كالمدارس ومؤسَّسات رعاية الأطفال وكبار السنِّ والمستشفيات ومنظَّمات الإرساليَّات على مستوى الولاية، وعلى المستويَين الوطنيِّ والعالميّ.

ولم يكُنْ للطوائف أيَّة سُلطةٍ على الكنائس، بل كان المعمدانيُّون أحرارٌ في الالتحاق، أو عدم الالتحاق، بهذه الطوائف. وبعض المنظَّمات التي تُشبه الطوائف تحملُ أسماء مثل ‘‘الشَّركة’’ أو ‘‘الاتِّحاد’’.

الخلاصة

يُقدِّم التعاوُن الطوعيّ، بين أجزاءٍ مختلفةٍ من الطائفة المعمدانيَّة، وسيلةً للخدمة الفعَّالة التي تهتمُّ بقضيَّة المسيح؛ فالكنائس ترتبط بعضها ببعض طوعًا بواسطة المنظَّمات، كالجمعيَّات أو الطوائف، لتنفيذ خدماتٍ عدَّة على نطاقٍ أوسع بكثيرٍ ممَّا يُمكن أن تُحقِّقه كلُّ كنيسةٍ بمفردها. وتتوافَقُ هذه العلاقة بالمعتقدات المعمدانيَّة الأساسيَّة (تتناول المقالة المقبلة في هذه السِّلسلة فعَّاليَّة التعاوُن الطوعيِّ والتحدِّيات التي تُواجهُها الكنائسُ في سبيل الحفاظ عليه).

‘‘أحد المبادئ الأساسيَّة للعمل هو أن يكونَ هذا العمل طوعيًّا…قد ترتبط الطائفة بروابطَ هشَّة مع المنظَّمات، لكنَّ الخبرات والمعتقدات والأهداف المشتركة التي توحِّدهم أقوى من الفولاذ’’.
جيمس سوليفان
اقتباسٌ من ‘‘حبلٌ من رمالٍ بقوَّةِ الفولاذ’’