22. المعمدانيُّون والخدمة

‘‘بما أنَّكُمْ فعَلتُموهُ بأحَدِ إخوَتي هؤُلاءِ الأصاغِر، فبي فعَلتُمْ’’.
(متَّى 25: 40)

أحد الأساليب التي يستعين بها المعمدانيُّون في سعيهم لأنْ يعيشوا إيمانَهم هو خدمة احتياجات الناس. ويسعى المعمدانيُّون بِاسْم يسوعَ إلى الاستعانة بطُرقٍ مختلفةٍ لتخفيف الأذى الذي يقعُ على البشر.

أُسسُ الخدمة

تتأصَّل الخدمة المعمدانيَّة المقدَّمة للناس في المعتقدات الأساسيَّة للكتاب المقدَّس والنظام الأساسيِّ للإدارة. وهذه الخدمة جزءٌ لا يتجزَّأ من هُوِيَّة المعمدانيِّين، وترتبط أسباب الخدمة ومداها وطبيعتها بالقناعات المعمدانيَّة الأساسيَّة.

ويشدِّدُ المعمدانيُّون على أهمِّيَّة ربوبيَّة يسوع المسيح، ويدعو الربُّ يسوع تلاميذَه إلى خدمة الآخرين.

قدَّم يسوع مثالًا في خدمته ورعايته للجميع وتلبيته لاحتياجاتهم. ومن منطلق اهتمامه بالحاجات الجسديَّة للناس، فتحَ عيون العمي، وشفى الخُرْس، وجعلَ العرج يمشون والمرضى يبرأون (متَّى 11: 5)، ومنحَ الصحَّة العقليَّة والعاطفيَّة للمجانين، وقدَّم احترامَ الذات والقبول للمنبوذين اجتماعيًّا مثل المرأة الزانية والعشَّارين (جباة الضرائب) غير الشرفاء.

وقد علَّم الربُّ يسوعُ تلاميذَه أهمِّيَّةَ الخدمة، وأعلن لهم: ‘‘بهذا يَعرِفُ الجميعُ أنَّكُمْ تلاميذي: إنْ كانَ لكُمْ حُبٌّ بَعضًا لبَعضٍ’’ (يوحنَّا 13: 35). عندما طُرِح عليه سؤالٌ عن الوصيَّة العُظمى في الناموس، أجابَ أنَّها ذات شقَّين هما محبَّة الله ومحبَّة القريب (متَّى 22: 37-40). أشارَ الربُّ يسوعُ إلى أنَّ محبَّة القريب تُعاش وتظهر في أعمال الرحمة وتلبية الاحتياجات، وأوضَحَ أنَّ أساسَ الدينونة الأبديَّة للحياة هو مدى إسهام الشخص في تلبية احتياجات الآخرين (متَّى 25: 31-46).

يلتزم المعمدانيُّون سُلطةَ الكتاب المقدَّس للإيمان والممارسة، ويوضِحُ الكتابُ المقدَّس أهمِّيَّة الخدمة لتسديد الحاجات البشريَّة، ويعلِّم الكتاب المقدَّس أنَّ علينا أن نحبَّ ليس بالكلام، بل بالعمل والرَّحمة (1يوحنَّا 3: 17-18). ويُسجِّلُ العهد الجديد كيف فعلَتِ الكنائسُ الأولى ذلك.

يؤمنُ المعمدانيُّون بأنَّ الخلاصَ لا يأتي سوى باستجابةِ إيمانٍ مع عطيَّة النعمة الإلهيَّة في يسوع المسيح؛ فنحن لا ننالُ الخلاصَ بالأعمال الصالحة بل بالإيمان. لكنَّ الخلاصَ يُثمِر عن أعمال صالحة. يقول الرسول بولس: ‘‘لأنَّنا نَحنُ عَمَلُه، مَخلوقينَ في المسيحِ يَسوعَ لأعمالٍ صالحة’’ (أفسس 2: 10)، ويقول الرسول يعقوب إنَّ ‘‘الإيمانَ بدونِ أعمالٍ مَيِّت’’ (يعقوب 2: 20).

ويُصبحُ الأشخاص الذين نالوا الخلاصَ بالإيمان بيسوع المسيح ربًّا ومخلِّصًا كهنة مؤمنين (1بطرس 2: 5؛ رؤيا 1: 6)، وتقعُ على عاتقِ كلِّ مؤمنٍ كاهنٍ مسؤوليَّةُ أن يخدمَ آخرين. وليسَتِ الخدمةُ فقط مهمَّةَ الرُّعاة والشَّمامسة وحدهم، بل هي مسؤوليَّة جميع الكهنة المؤمنين. ويواجه الكهنةُ المؤمنون مجموعةً محيِّرةً من الحاجات البشريَّة، لذا عليهم أن يمارِسوا المقدرة الممنوحة للنَّفس لمعرفة مشيئة الله واتِّباعها من جهة الاحتياجات التي ينبغي تلبيتها، وهم يعتمدون في هذا الأمر على القوَّة والقيادة اللتَين يمنحهما الروح القدس (غلاطِيَّة 5: 25).

يمارسُ المعمدانيُّون الإدارة الجماعيَّة للكنيسة والاستقلال الذاتيَّ للكنيسة المحلِّيَّة والتعاوُن الطوعيّ. كما أنَّ الطائفة المعمدانيَّة لا تُملي على الكنائس أيَّة خدمةٍ عليها أن تؤدِّي أو كيف ترتبط بعضها ببعض في الخدمة. لكنَّ الكنائس تُنفِّذُ مجموعةً واسعةً من الخدمات، وتعمل معًا في تعاوُن طوعيٍّ لتقديم خدمات خارج الجماعة المحلِّيَّة بإنشاء الجمعيَّات والطوائف والمجامع والاتِّحادات.

علاوةً على ذلك، قادَتِ الحرِّيَّة الدينيَّة المعمدانيِّين إلى تنفيذ الخدمة بعيدًا عن الإجبار؛ فالأشخاص والكنائس يتمتَّعون بالحرِّيَّة في اختيار الخدمة التي يودُّون تأديَتها. وتُسهِم تقدِمات المعمدانيِّين الطوعيَّة (2كورنثوس 8: 1-8) في تأدية الخدمات، ولا يحدُث ذلك من أموال الضَّرائب أو اقتطاعات الطائفة؛ لأنَّ كلًّا منهما قد يتضمَّن شكلًا من أشكال الإجبار، إذ تتأصَّلُ الخدمة المعمدانيَّة في المشاركة والدَّعم والتعاوُن الطوعيّ.

مدى الخدمة

يستندُ مدى الخدمة المعمدانيَّة إلى المثال والتعاليم التي قدَّمها يسوع المسيح والكتاب المقدَّس، لذا تقدِّمُ الخدمة إلى جميع الناس وفي كلِّ مكان.

إنَّ الشخصَ هو موضوعُ الخدمة المعمدانيَّة، سواء على المستوى الروحيِّ أم الجسديِّ أم العقليِّ أم العاطفيِّ أم الاجتماعيّ. وتُسدَّدُ الحاجات الجسديَّة بواسطة خدمات كالطَّعام والملابس والمياه والمأوى والرعاية الطبِّيَّة. في حين يُمكن تلبية الاحتياجات العقليَّة والعاطفيَّة بأمور مثل المشورة وزيارة المسجونين والوعظ والتعليم الإيجابيّ. وتسدَّد الاحتياجات الاجتماعيَّة بالشركة والترفيه وإدماج المنبوذين اجتماعيًّا والذين يعيشون في وَحدةٍ في هذه الأنشطة وغيرها. ويُمكن تلبية الحاجات الروحيَّة بالكرازة والإرساليَّات والتلمذة والتعليم المسيحيّ؛ إذ يرى المعمدانيُّون عمومًا أنَّ تسديد الحاجات لا يكون كاملًا ما لم يتضمَّنِ العنصرَ الروحيّ، كتقديم الكرازة والتنشئة المسيحيَّة.

ويخدم المعمدانيُّون أيضًا الجميعَ من كلِّ الأعمار وكلِّ الحالات الروحيَّة والجسديَّة والعاطفيَّة والعقليَّة، وجميع الأجناس والثقافات والطبقات والفلسفات والعقائد وجميع المستويات الاقتصاديَّة والتعليميَّة والاجتماعيَّة. ويمكن ملاحظةُ الخدمة المعمدانيَّة في مجموعةٍ متنوِّعةٍ من الأماكن في الأحياء الفقيرة والسُّجون والمعسكرات والمستشفيات والمناطق الريفيَّة ومراكز اللجوء ومواقع الكوارث. ويُمكن أن تجدَ الخدمات المعمدانيَّة على المستوى المحلِّيِّ والوطنيِّ والإقليميِّ والعالميِّ أيضًا.

وسائلُ الخدمة

تُقدَّم الخدمةُ المعمدانيَّة بمجموعةٍ كبيرةٍ من الوسائل، ويستعين الأفرادُ والكنائسُ والمؤسَّسات ومنظَّمات الطائفة، كالجمعيَّات والمجامع بهذه الوسائل، ويتبعُ المعمدانيُّون مثال الربِّ يسوع ووصاياه في خدمة الاحتياج البشريّ. وبعيدًا عن أيَّة منظَّمة، يعصبُ المعمدانيُّون جروحَ منكسري القلوب ويزورونَ المرضى والذين على فراش الموت ويُشجِّعون المكتئبين ويُقدِّمون عددًا لا حصر له من الخدمات الأُخرى. علاوةً على ذلك، يؤلِّفُ الأشخاص المكرَّسون مجموعاتٍ منَ المتطوِّعين والخدَّام الذين يمكِّنون الكنائس والمنظَّمات الأُخرى من خدمة الناس.

تخدم الكنائسُ المعمدانيَّة ذات الأحجام والمواقع المختلفة الحاجات البشريَّة، فضلًا عن تسديد الاحتياجات الروحيَّة بالكرازة والتنشئة المسيحيَّة، وتلبِّي الكنائس جوانبَ أُخرى من الاحتياج البشريِّ سواء على المستوى الجسديِّ أو العقليِّ أو العاطفيِّ أو الاجتماعيّ، وتقدِّم المشورة للبائسين، والطعام للجياع، والملابس للفقراء، والمواصلات لذوي الاحتياجات الخاصَّة. في الواقع، قائمة الخدمات التي تقدِّمها عمليًّا لا تنتهي.

تخدمُ المؤسَّسات المعمدانيَّة الاحتياج البشريّ. وقد أسَّسَ المعمدانيُّون مدارسَ وكلِّيَّاتٍ لتوفير الاحتياجات التعليميَّة للكثيرين قبل حتَّى تأسيس المدارس الحكوميَّة والكلِّيَّات التي تتلقَّى الدعمَ من أموال الضَّرائب. وتُعدُّ المؤسَّسات التي تهتمُّ برعاية الأيتام والأطفال المحتاجين من بين أقدم المؤسَّسات المعمدانيَّة، ويدعم المعمدانيُّون مؤسَّساتٍ مختلفة للعناية بكبار السِّنّ، ويخدمون المستشفيات والعيادات بواسطة برامجَ كنسيَّةٍ وخيريَّةٍ واسعة النِّطاق، وتُرسل مؤسَّساتٌ عدَّة خُدَّامًا ومتطوِّعين للخدمة في أجزاءٍ مختلفةٍ من العالم.

وتُلبِّي المنظَّمات المعمدانيَّة باختلاف أنواعها احتياجات الناس بوسائلَ عدَّة بعضها يكون في أوقات الكوارث الطبيعيَّة، مثل الفيضانات والبراكين والأعاصير والزلازل، بغيةَ تقديم الرعاية للمتضرِّرين. وتوفِّر المنظَّمات الطعامَ والمياه والملابس، وتساعدُ في إعادة بناء المنازل والكنائس، ويُقدِّم آخرون برامجَ مستمرَّة، كالتدريب على الوظائف للعاطلين، وتدريب محو الأُمِّيَّة. وتعمل بعضُ هذه المنظَّمات بمفردِها، في حين يعمل بعضها الآخر بالتعاوُن مع مجموعاتٍ دينيَّةٍ وعلمانيَّة أُخرى.

وجديرٌ بالذكر، أنَّ الطوائفَ والجمعيَّات المعمدانيَّة تُعزِّز الكثيرَ منَ المؤسَّسات والمنظَّمات، وتوجَّه إليها أموالٌ يقدِّمها الأفرادُ والكنائسُ، وهي تُساعدُ أيضًا في تنسيق جهود الخدمات.

الخلاصة

إنَّ للخدمة، بوسائلَ عدَّة، دورًا أساسيًّا في الحياة المعمدانيَّة. ويُحاول المعمدانيُّون الذين يتعلَّمون منَ الكتاب المقدَّس، ويتمتَّعون بقوَّة الروح القدس أن يخدموا بِاسْم يسوع الجميعَ في كلِّ مكانٍ لمجد الله الآب.

‘‘أيُّها المؤمن، بدلَ الجدَل، فلأُخبرْك كيف تثبتُ إيمانك: عِشْ ذلك الإيمان’’.
تشارلز سبيرجن
راعٍ معمدانيّ، لندن، إنكلترا في القرن التاسع عشر