8. المعمدانيُّون: معموديَّة المؤمن

‘‘فدُفِنَّا معه بالمَعموديَّةِ للمَوت، حتَّى كما أُقيمَ المَسيحُ منَ الأموات، بمَجدِ الآب، هكذا نَسلُكُ نَحنُ أيضًا في جِدَّةِ الحياة’’.
(رومية 6: 4)

لو سألتَ معظمَ المؤمنين غير المعمدانيِّين، أو حتَّى بعض المعمدانيِّين، عن ‘‘السمة المعمدانيَّة المميَّزة’’، لأجابوك على الأرجح أنَّها ‘‘معموديَّة الكبار بالتغطيس في الماء’’. لا توجد بالتأكيد سمةٌ واحدةٌ فقط تُميِّز المعمدانيِّين. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يعتقد الكثيرون أنَّ المعموديَّة التي يُمارسها المعمدانيُّون هي السِّمة المميَّزة لهم؟ أحد الأسباب المحتمَلَة هو أنَّ الطائفة المعمدانيَّة من الطوائف القليلة التي تُمارس المعموديَّة بالتغطيس في الماء، وتفعل ذلك بوصفها رمزًا إلى الخلاص وليس شرطًا له.

في القرون الماضية، شنَّ بعض الحكَّام والكنيسة موجةً من الاضطهادات على المعمدانيِّين بسبب هذه الممارسة. لماذا قاومَ المعمدانيُّون وتمسَّكوا بعقيدة تغطيس المؤمن في الماء، ومارَسوها وواجهوا هذه المقاومة الشديدة والاضطهاد وعناءَ التغطيس وصعوبته؟ نجدُ الإجابة عن هذا السُّؤال في القناعات المعمدانيَّة الأساسيَّة.

المعموديَّة للمؤمنين وحدَهم

يُسجِّل العهدُ الجديدُ أنَّ المعموديَّة دائمًا ما تأتي بعد الإيمان وقبول المسيح، ولا تسبقها بتاتًا، وهي ليست ضروريَّةً للخلاص (أعمال 2: 1-41، 8: 36-39، 16: 30-33). ونظرًا إلى أنَّ المعمدانيِّين ينظرون إلى الكتاب المقدَّس بوصفه السُّلطةَ الوحيدة للإيمان والممارسة والتطبيق، فنحن نؤمنُ بأنَّ المعموديَّة هي للَّذين وَضَعوا إيمانهم في يسوع المسيح ربًّا ومخلِّصًا.

علاوةً على ذلك، يوضِحُ المعمدانيُّون أنَّ التزامَ الإيمان بيسوع المسيح واتِّباعَه ربًّا ومخلِّصًا كان دائمًا طوعيًّا، ويظهر ذلك جليًّا في العهد الجديد. وبسبب هذه القناعات المبنيَّة على تعاليم الكتاب المقدَّس، لا يعمِّدُ المعمدانيُّون الأطفال، وقد أدَّى هذا الرفضُ إلى تعرُّضهم للاضطهاد. مثلًا، أُجبِرَ هنري دنستر، أوَّلُ رئيس لجامعة هارفرد، على تَرْك منصبه، وتعرَّض أيضًا للإقصاء من كامبردج بسبب رَفْضِه تعميدَ أطفاله الرضَّع في الكنيسة التي تدعمها الدولة.

المعموديَّة بالتغطيس وحده

رغم أنَّ بعضَ المعمدانيِّين الأوائل عمَّدوا بسكب الماء أو رشِّه على الشخص، فإنَّ المعمدانيِّين توصَّلوا إلى أنَّ تغطيسَ جسد الشخص بالكامل في الماء هو الطريقةُ الوحيدةُ للمعموديَّةُ في الكتاب المقدَّس. ورغم الاضطهاد وعناء التغطيس في الماء والسُّخرية، فقد بدأوا بممارسة المعموديَّة بالتغطيس وحدَه، واليوم تُستخدَم الطريقة المعمدانيَّة في معظم أنحاء العالم.

من المؤكَّد أنَّ الإيمانَ بالتغطيس في الماء بوصفه طريقةً مناسبةً للمعموديَّة، يستند إلى الكتاب المقدَّس لأسباب عدَّة:

  • تأتي كلمة ‘‘يعمد’’ في اللغة اليونانيَّة، التي كُتب بها العهد الجديد، بمعنى ‘‘يغمس أو يغمر أو يغطِّس’’.
  • عمَّد يوحنَّا المعمدان يسوع في نهر الأردنِّ بالتغطيس في الماء عندما بدأ الربُّ يسوعُ خدمتَه العلنيَّة (متَّى 3: 12-17؛ مرقس 1: 9-11).
  • تعمَّدَ تلاميذُ يسوع في العهد الجديد بالتغطيس في الماء (أعمال 8: 36-39).
  • التغطيسُ وسيلةٌ ليس فقط لإعلان أنَّ المسيحَ ماتَ ودُفن وقامَ من بين الأموات ليُقدِّم لنا الخلاص، بل أيضًا هو أداةٌ للشَّهادة عن رجائنا بالقيامة (رومية 6: 5).
  • يُعلِّمنا العهد الجديد أنَّ التغطيس طريقةٌ ترمزُ إلى أنَّ المؤمنَ ماتَ عن أسلوب حياته وطريقته القديمة، وأصبح يعيش ويسلك بطريقةٍ جديدةٍ في المسيح (رومية 4: 3- 4؛ كولوسِّي 2: 11-12).

المعموديَّة رمزيَّة

يؤمن المعمدانيُّون بأنَّ الكتابَ المقدَّسَ يعلِّمنا أنَّ المعموديَّة مهمَّة، لكنَّها ليست ضروريَّةً للخلاص. مثلًا، اخْتَبَرَ اللصُّ على الصَّليب (لوقا 23: 39- 43) وشاول في طريق دمشق (أعمال 9: 1- 18) والمجتمعون في بيت كرنيليوس (أعمال 10: 24- 48) الخلاص دون الحاجة إلى المعموديَّة. وفي عِظةِ بطرس يوم الخمسين، حثَّ الرسول أولئك الذين تابوا وآمنوا بالمسيح أن يعتمدوا، لا لأنَّ المعموديَّة كانت ضروريَّةً للخلاص، بل شهادةً كونهم قد نالوا الخلاص (أعمال 2: 1-41).

المعموديَّةُ رمزيَّةٌ وليست سرًّا مقدَّسًا، ويؤمن المعمدانيُّون بأنَّ الكتابَ المقدَّسَ يُعلِّمنا أنَّ المعموديَّة ترمز إلى أنَّ الشَّخصَ نالَ الخلاص، وهي ليسَتْ وسيلةً للخلاص. وليسَتِ المعموديَّة أيضًا وسيلةَ توجيهِ النعمة المخلِّصة، بل طريقةٌ للشهادة عن أنَّ النعمة المخلِّصة قد اختُبِرَت. إنَّها لا تمحو الخطيَّة، بل ترمز إلى غفران الخطيَّة بالإيمان بالمسيح. ومع أنَّ المعموديَّة ليست ضروريَّةً للخلاص، فإنَّها مطلَبٌ غاية في الأهمِّيَّة لطاعة الرَّبّ. يوصي السيِّدُ المسيح تلاميذه أن يعمِّدوا المؤمنين بِاسْمه (متَّى 28: 19)، ومن ثَمَّ فالمعموديَّة هي صورةٌ من صُوَرِ طاعةِ الربِّ يسوع، وهي إحدى الوسائل التي يُعلن بها الشخص أنَّ ‘‘يسوع ربّ’’.

الشخص والمكان والزمان والبيئة المناسبة للمعموديَّة

يُشير المفهوم المعمدانيُّ إلى كهنوت جميع المؤمنين، أي أنَّ كلَّ كاهنٍ مؤمنٍ يُمكن أن يُؤدِّي المعموديَّة، وليس القسَّ وحدَه أو الشخصَ المرسوم. في معظم الكنائس المعمدانيَّة، الممارسة الفعليَّة التي يؤدِّيها القِسُّ أو خادم الكنيسة هي المعموديَّة، لكنْ أصرَّ بعض الأشخاص على أنَّ المدعوِّين للكرازة وحدَهم هم مَن يجب أن يعمِّدوا.

عندما تُتاحُ الأحوال، يُفضِّل المعمدانيُّون إجراءَ المعموديَّة في مكانٍ عامّ؛ لأنَّها نوعٌ من الاعتراف العلنيِّ بالإيمان، ويمكنُ الاستعانةُ بمجموعةٍ متنوِّعةٍ من الأماكن. في الماضي، كان معظمُ الأشخاص يعتمدون في الأنهار أو البحَيرات. مثلًا اعتمدَ سام هيوستن في جدوَلِ ماءٍ بالقرب من الكنيسة المعمدانيَّة المستقلَّة. في الآونة الأخيرة، بدأَتِ الكنائسُ في بناء أماكن تعميد داخل مبانيها. لكنْ تُستخدَم أماكنُ أُخرى عدَّة مثل بِرَكِ السباحة، أو البُحَيرات، أو الأنهار، أو جداول الماء، أو البحار والمحيطات.

ليس لدى المعمدانيِّين توقيتٌ معيَّنٌ مفضَّلٌ في ما يتعلَّق بالمعموديَّة سوى أنَّها تحدُثُ بعد إيمان الشخص وقبوله المسيح. وما دامَتِ المعموديَّة ليست ضروريَّةً للخلاص، فهي ليسَتْ مطلَبًا أو شرطًا فوريًّا عند إعلان الشَّخص لإيمانه؛ فبعض الكنائس تعمِّدُ المؤمنين بعد مدَّةٍ وجيزةٍ من إعلان إيمانهم، وكنائس أُخرى تُطالب المرشَّحَ للمعموديَّة أن يُشاركَ في دورةٍ دراسيَّةٍ للمؤمنين الجدد قبل المعموديَّة.

يرى المعمدانيُّون أنَّ المعموديَّة إحدى وظائف الكنيسة. في الواقع، يؤمنُ المعمدانيُّون بأنَّ كلَّ شخصٍ اعتَمدَ بالماء يجب أن يُصبح عضوًا في جماعةٍ محلِّيَّةٍ من المؤمنين. ولا يرى المعمدانيُّون أنَّ المعموديَّة عملٌ فرديٌّ بقدرٍ كبير، بل هي عملٌ جماعيٌّ يضمُّ جماعةً من الكهنة المؤمنين الذين يمثِّلون الكنيسة. بمعنى آخر ترمزُ المعموديَّة إلى عهدٍ ما بين الشخص المعمَّد والكنيسة.

الخلاصة

يحترم المعمدانيُّون، الذين يؤمنون إيمانًا بالغًا بالحرِّيَّة الدينيَّة، حقَّ الآخرين في استخدام الطريقة التي يختارونها في المعموديَّة. وبالمثل، يودُّ المعمدانيُّون أن يمارسوا حقَّ التعبير عن قناعتهم، فقد تحمَّلَ المعمدانيُّون في الماضي اضطهادًا رهيبًا بسبب التزامهم أن يعمِّدوا المؤمنين البالغين، واليوم لا يزالَ المعمدانيُّون يتمسَّكون بمعموديَّة المؤمنين ولا يتهاونون فيها، ويبذلون كلَّ جهدٍ للتحقُّق من أنَّ الأجيال المقبلة تُدرك أهمِّيَّتها الكبيرة.

‘‘المعموديَّة فريضةٌ مِن العهد الجديد أوصى بها السيِّد المسيح أن تكون للذين يُعلنون إيمانهم ويَقبلون المسيح، أو للتلاميذ أو للذين تعلَّموا أنَّهم يجب أن يعتمدوا بالماء عند إعلان إيمانهم’’.

‘‘يوضِحُ الكتابُ المقدَّسُ أنَّ طريقةَ تأديةِ المعموديَّة هي بتغطيس الجسد بالكامل تحت الماء’’.
المادَّتان 39 و40 من اعتراف لندن الأوَّل للمعمدانيِّين عام 1644م.